العطاء غير المتوازن


يبدأ يتشكل معنى التملّك عند الطفل في السن الثانية، ونلاحظه مكتملًا وواضحًا في السن الثالثة. يبدأ الطفل في استيعاب ماله، وما ليس له في عمر مبكر جدًا. يعرف أن هذه ألعابه، وهذا كتاب أمي وهذه سيارة أبي، وهذا سرير أختي. ثم نلاحظه يبدأ بتكوين علاقة خاصة مع الأشياء التي يملكها، من دمى وألعاب. يصبح عالمه أكثر اتساعًا، يحبه، ويعتني به، ويرى نفسه بوضوح في هذه الأشياء المحسوسة.

لكن في يوم من الأيام، يطلب منه أحد ما أن يشاركه شيئًا خاصًا به. مثل أن يعطيه قطعة من الحلويات الكثيرة التي يملكها. أو أن يلعب معه بألعابه الخاصة. هنا يكتشف الطفل مفاهيم أخرى انطلقت من هذا الطلب البسيط. مفاهيم ومعاني جديدة مثل: العطاء، والمشاركة، أو الأنانية، والوحدة. إن أعطى كان مقبولًا وحميدًا. وإن لم يفعل، كان مرفوضًا ومذمومًا. فماذا يفعل؟

هذه فرصة لتعليم الطفل قيمة العطاء. وهي قيمة سامية، ونبيلة، تزكي الأنفس، وتطهرها من الأنانية والبخل، وتلين القلب لحب الآخر والمجتمع الذي يعيش فيه. علم طفلك أن العطاء ليس فقط للكبار، بل يستطيع أن يكون معطاءًا هو أيضًا. أن يشارك ألعابه أو يبتسم لأصدقائه، أو أن يقول كلمة طيبة.. كل ذلك يسمى عطاء. تحاور معه حول صور العطاء وأنواعه المختلفة. مثلًا بإمكانك أن تطلب منه أن يعطيك تفاحة، ثم اجعل يديك في الأسفل ويضعها هو في راحة يديك من الأعلى، ثم قل له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (اليد العليا خير من اليد السفلى). ذلك يعزز العطاء كقيمة روحية أيضًا ووسيلة للقرب من الله.

هذه إحدى قصص كتاب "حكايات إيسوب" أعجبتني كيف قصيرة ومعبرة عن العطاء الغير متوازن، فرسمتها.

 

متى يؤذينا العطاء؟

عندما يرى أبناؤنا تعاملنا الطيب مع الناس، واهتمامنا بأداء الصدقات، أو الزكاة في رمضان. سيدركون مكانة هذه القيمة الجميلة. لكنها تحتاج إلى حكمة، فإذا أعطينا في كل وقت، ولكل أحد، دون أن نفكر، قد نشعر بالتعب أو الحزن. ليس لأن العطاء خطأ، بل لأننا أعطينا دون أن نلاحظ: من نُعطي؟ ولماذا؟ وهل نملك ما نعطيه؟

أقترح عليك تجربة بسيطة مع طفلك لكي يتعلم من خلالها الحكمة والتوازن في العطاء. اطلب منه أن يعطيك قطعة صغيرة من رقائق البطاطس الذي يأكل منه. إذا أعطاك، كلها بسرعة ثم اطلب منه مجددًا. إذا أعطاك في المرة الثانية، كلها بسرعة أيضًا، ثم اطلب منه مجددًا.. وهكذا. إما أنه سيستمر في العطاء، حتى آخر قطعة، ولا يبقى له شيئًا. أو أنه سيقول لك: لا، هذا لي.

في كلا الحالتين سيتعلم من هذه التجربة، أن العطاء قد يؤذينا إذا فعلناه لنرضي الآخرين. لأننا خائفين من الرفض، فنسعى للقبول بالعطاء ونحاول كسب رضاهم، فننسى أنفسنا. كما سيتعلم أن للعطاء حدود، حتى مع الناس الذين نحبهم. علمه أن من يحبنا بصدق، لن يطلب منا مالا نستطيعه.

العطاء قد يستخدم للأبتزاز العاطفي أيضًا، من يعطي، يجب أن لا يمن ولا يبتز بالعطاء الذي قدمه. إن العطاء قيمة سامية وجميلة، ولا تكون بمقابل. هكذا المؤمن، يرجو ما عند الله سبحانه. للأسف هناك من يعطي حتى يؤثر في عاطفتنا، فنرضخ لما يطلبه منا مستقبلًا من غير وعي. هذا الاستغلال العاطفي غير صحي، ومؤذي ويجب أن ننتبه له، ونحذر منه. علم طفلك أنه ليس كل من يعطيه لعبة أو حلوى يعني أنه صديقًا، يجب أن يلاحظ ويتأكد أولًا. العطاء لا يعني بالضرورة الحب والخير، فربما يُستخدم كسلاح للشر.

هذه القيمة مهارة حقيقية اليوم، وأصبحت جهادًا صامتًا. وهذه الشجرة المقطوعة في القصة، ستنمو من جديد، وتكون باسقة شامخة بقيمة العطاء، لأنها تعلمت كيف تعطي بتوازن وحكمة. قصتها تعلمنا أن العطاء طريق إلى الجنة، والله يحب من يُحسن، ويعطي، ويشارك الآخرين. والعطاء يبدأ من البيت أولًا. فالطفل يرى أبويه وعطاءهم له ولإخوته، ثم الأعمام والأخوال، ثم الأقربين، ثم الجيران.. وهكذا. العطاء ينبع من قلب ممتلئ، غير ناضب وروح قوية غير ضعيفة. روح مكتفية بذاتها، فتفيض على من حولها بما تملك. دائرة من النور والخير تكبر وتكبر.

Next
Next

كل شيء عن الصداقة